فن العطاء
الإهداء:
إلى هؤلاء: «الذين يقرؤون الآن، والمنسيين في صحراءنا الشاسعة، قديمـًا .. وحديثـًا.. دفئكم في قلبي».
شكر وامتنان:
للصديق جمال نافع: الصحفي بجريدة الأهرام
--
لمحمد العشري
تفاحة الصحراء
( 1 )
انطلق بعربته "الجيب" الرمادية بسرعة جنونية، يده اليسرى على مقودها، واليمنى تقبض على بندقية سريعة الطلقات، دار في منعطفات ضيقة بين التلال الدائرية، خرج منها إلى براح لا نهاية له، متتبعـًا الظل المذعور الذي تلقيه الشمس المتوهجة تحت أرجل غزالة هاربة من صوت رصاصات بندقيته، التي تشده بنشوة انطلاقها إلى تتبع تلك الرقيقة، ذات الجسد المنتفض هلعـًا، قلبها يدق بعنف مفرزاً خوفـًا يبلل الرمال خلفها، قفزت إلى وادي "الحديج"، والعربة تقترب أكثر من قفزاتها، والقناص لا ترمش له عين، كله إصرار على ذبحها، كادت دقاتها تخرج دفعة واحدة حين أحست بسحبة الزناد، والرصاصة تتجه نحو صدرها بمجرد أن وقفت تنظر حولها للحظة، تتطلع إلى ذلك العنيد.
تهلل وجهه وهو ينـزل من العربة متجهـًا إليها، وهى مكومة على أطرافها تئن، دماءها تسيل وقد انحصرت في الوادي ذي الأرض المنبسطة الكاشفة لكل حشرة فيها، والتي كانت بمثابة الشرك لها، فبدت التلال الصغيرة من بعيد كحوائط مرتفعة تمنعها من الهرب، فسهلت له قنصها.
حملها بين ذراعيه مبتهجـًا، رأسها متدلٍ إلى أسفل، عيناها على العشب – مأكلها ووطنها – وهى تبتعد عنه للمرة الأخيرة، أطلقت دموعها لتروي مكان قدميها، فربما يجد تلك الدموع أحباء من بني جنسها فتتذكرها، أو ربما تتشمّم آثار العجلات العائدة بها، فتنطلق خلفها، تقف أمام الموضع الذي سيحوي عظامها، وتنبش الأرض بحوافرها.
ألقاها في خلفية العربة على أخريات صريعات ملوثات بدماء حارة، أجسامها تترجرج مفسحة لها. تحسس رؤوسها مزهواً، ألقى إليها قُبلة طائرة.
ركب العربة، داس على قلبها، وهو ينتزعها من بيتها إلى مكان تجهله.. أخرجت مِسكها في خامه الصمغي البني، أسالته من غدة تبرز من بطنها، رشته في الهواء مُطلقة نباحها المتقطع، مستغيثة بأوراق وجذور العشب، الذي اندس خجلاً بين حبيبات الرمل.
*
على جانبي الوادي من الناحية الغربية يقف تَلان عاليان كهرمين فرعونيين، فوق كل تل سور من الحجر الجيري المائل إلى الاصفرار، ملتف في نصف دائرة، ارتفاعه يقترب من المتر، من خلف السور تخرج ماسورة مدفع يبدو من هيئته أنه من النوع الصائد للطائرات.
لم يكن يدري أن الغزالة سحبته إلى تلك الفخاخ التي لم يرها وهو يرمح وراءها، توجس قليلاً، صعد في اتجاه أحد التلين، شعر بقطع الصخر تهز الإطارات وترنحه في مقعده، انقلبت الأرض تحته من رمال ناعمة مكسوة بطبقات العشب الأخضر الجاف إلى قطع من صخور "الكونجلومرايت" الزلطية الصلدة، المتراكمة فوق بعضها في أشكال هندسية مختلفة، على طول الطريق الصاعد إلى أعلى في مجرى حلزوني ضيق.
خلف السور كان هيكل المدفع غير مكتمل، من حوله طلقات ضخمة مبعثرة، بعضها فارغ والبعض الآخر ما زال بكبسولته الخلفية، تحسسها بلمسة خاطفة، كمن يجس سلك كهرباء مكشوف، ثم جذب يده.
شعور داخلي شحنه بشحنة عالية خدرته، وقعت عيناه المتوجستان على بعض المعلبات الفارغة المهترئة بفعل الصدأ، والذخيرة ذات الأحجام المختلفة مرصوصة في ركن إلى جانب نهاية السور الحجري، التقط عدداً من الطلقات، وضعها في الخلفية، في مكان فارغ بين أرجل الغزلان.
وقف ينظر أمامه، رأى امتداداً لا نهاية له، دار ببصره في كل الجهات، هاله ما شاهده من فراغ منكشف، فأي شئ سيقترب من ذلك التل لابد أن يراه الواقف عليه حتى لو كان مجرد نملة تصعد متخفية.
ذلك ما جعله يستدير إلى المدفع النائم أمامه، اقترب منه، تحسس ماسورته، وجد الندى عالقـًا بها، يتكثف في قطرات تتدحرج إلى الأرض، تروي عشبـًا نديـًا ينمو متسلقـًا الأحجار، اخضراره زاهٍ، ونبات شوكي مورد يشربه طازجـًا، يضخه في زهوره الحمراء، فتنبت في التو أسراب النحل على رائحته، تمتص الرحيق وتنقله إلى معاملها.
*
هاجمته صورة المعركة الضارية، من مكانه شعر أن صفوفـًا من الجنود والدبابات تنتشر في الصحراء في اتجاهات مختلفة، رأى أمامه جنود المدفع وهم يعبئونه، يدورون به ضاربين تلك الجموع المتحركة، التي تبدو من بعيد كجيوش خراف هزيلة، أنهكها السير في صحراء مزروعة بالحرارة المرتفعة، والشوك المدبب يملأ فوالق الصخور المفتتة.
و"مونتجمري" وسط الجنود يضع النظارة المعظمة على عينيه، يرى أشباح جيش خصمه "روميل" تقترب منه، مخترقة الفخاخ التي بعثرها في كل مكان، يتملكه الرعب، يلتقط قلمه، يخط رسالة إلى زوجه، علها تكون آخر شئ يصلها منه:
(إن المعركة عنيفة، والعدو يسحقنا، وأنا أرقد في الليل مفتوح
العينين، أفكر في وسيلة للخروج بقواتي البائسة، المحظوظون
هم فقط الأموات).
سيطرت على القائد أذرع الفزع. فكيف استطاع الثعلب أن يتخطى رؤوس الشيطان المزروعة في أكثر من 1772 حقلاً لغميـًا في مساحة طولها اثنين وسبعين ونصف كيلومتراً مربعـًا، وعرضها ثلاثة وخمسين كيلومتراً مربعـًا، موزعة بعشوائية لا مخرج منها، لا عربة أو حيوان أو حشرة أو إنسان يمكنه أن يفلت، حتى الطيور التي في الجو لابد أنها هالكة.
ضرب الخوف مسماراً في رأسه، أمسك البوق، نادى في آذان جنوده:
(إذا هوجمنا فلن ننسحب ولن نتراجع، وإذا لم نستطع الثبات
في مواقعنا، ونحن على قيد الحياة، سنبقى هنا جثثـًا فوق الرمال).
*
قطف وردة حمراء من تحت المدفع، ابتسم وقال:
- يا له من مكان عبقري!
.. كيف اهتدوا إليه..
.. لابد أنهم قد اعتمدوا على البدو في السير والتنقل، وإلا غرقوا
في تلك المتاهة الجهنمية.
رأى الشمس على وشك أن تدخل في قلب السماء، ركب عربته، نزل بتأنٍ وهدوء. حين لامست العجلات أرض وادي "الحديج" دفع البنـزين، هرب في اتجاه الممر الذي أتى منه، دخل في الطريق الممهد بالحصى في اتجاه البريمة، التي يعمل بها.
*
عَفّرت العربة الفضاء خلفها، مكونة سحابة من الغبار التفت حوله ومنعت عنه الرؤية، ضاعف سرعته خوفـًا من الغرق في موج التراب الهائج، دقق النظر أمامه، أبصر كتلة كبيرة تسد عليه الطريق، هبط على الفرامل بقوة، فزعقت تحت قدمه، دفعت العربة إلى الدوران حول محورها.
تطاير دم الغزلان، سال من فوق كتفيه، نتيجة ارتطامها بظهر مقعده، خرج متأففـًا، وهاشـًا الجملين النائمين في عرض الطريق غير عابئين به، فقط حركا رأسيهما في اتجاه الزوبعة التي صنعها، ورجعا يلوكان ما تحت أضراسهما، ويكملان حوارهما.
اقترب منهما، فأرغيا وأزبدا.. تراجع خوفـًا.
تساءل:
- ما العمل؟
نظر في ساعته، متكئـًا بجذعه على مقدمة "الجيب". فعلى جانبي الطريق الممهد الأرض مفخخة بالألغام، لم يتم مسحها مثلما مُسحت المنطقة التي يذهب للصيد فيها، التي تحتوي على إرشادات بالحجر الجيري المدهون بالطلاء الأبيض الناصع – حجر كبير أو حجرين فوق بعضهما على مسافات متقاربة – تبدو كهياكل آدمية منحوتة بالتجوية، واقفة في الخلاء كرؤوس مُعممة، فوق أجساد متكئة على جوانبها، ملتفة في حلقة سمر، نارها الهادئة تلمع في ضوء القمر، شايها وقهوتها يُسربان رائحة "الشيح"، فيستطيع أن يميزها حتى في الليل ويمشي على هديها.
وقف تائهـًا في الفراغ المحيط به، يفكر في المدى اللانهائي، الذي ضاق حوله فجأة، ولا يجد ممراً ينفلت منه إلى موقع الحفر.
تخلف الجملان عن القافلة الشاردة في الصحراء في أماكن خطرة، لا يجرؤ أحد على أن يطأها بقدمه، فمع كل خطوة من خفوفها ينتظر الناظر إليها أن يهب لغم من نومه وينثرها أشلاءً في الهواء.
*
رغم تلك التداعيات التي صحت في مخه وأربكته، قيدت حركته في المكان الذي يقف فيه منتظراً أن ينهي الجملان حديثهما، يتركا له شريط المرور، إلا أنه شاهد صبيـًا حرقت بشرته الشمس، يقترب منهما ببطء، ناظراً في اتجاهه.
لوح له بذراعه، فأسرع إليه، وعود الحطب يرقص بين يديه.
سأله:
- ما اسمك؟
- صميدة.
- هل هذه جِـمالك؟
- لا.. إنني أرعاها فقط.
أضاف:
- حضرتك مهندس في البريمة؟
- نعم.
- كنت أريد أن أعمل بها مع إخواني، لكن الحاج ناجي– المقاول - منعني.
ضحك ضحكة عالية. قال:
- هيا حرك الجملين؟
- هل ستشغلني؟
- نعم.. مُر عليَّ غداً في البريمة.
تقافز صميدة تجاههما، زعق فيهما، ضربهما بعود الحطب، غارسـًا طرفه في ظهريهما. قاما من بركهما على مضض في حركة كسولة، أفسحا له الطريق، وأعينهما تستغرب إصراره على أن يزعجهما، بدا كغريم يتربص بأوقات الخلوة لمنافسه، فقد بذل الذكر جهداً مضنيـًا للفوز بتلك اللحظات مع رفيقته، بعيداً عن تلصص الأعين، وتفتح الآذان من حولهما.
*
ركب مسرعـًا.. من بعيد أتاه صوت الصبي الذي انتبه لتحركه المفاجئ، سأله وهو غير موقن أن سؤاله سيصله:
-أسأل على مَن؟
رد عليه بصوت عالٍ مستغربـًا ظهوره، فهو واقف أمام العربة منذ فترة ولم يره، ولم يكن يتوقع أن يجد في ذلك الخواء اللانهائي قدمـًا تسير.
- الجيولوجي تامر "الدكر".
*
( 2 )
في تلك الصحراء الغولة يتناثر كل شئ فيها دون أن تمتلئ، فتبدو مبقعة بالناس والحيوانات والطيور والحشرات والأشجار والحشائش والأعشاب والألغام. حين تهب عواصفها، تغرق في بحار الغبار، تلتهب شمسها، ويمطر غطاءها سيولاً جارفة فتعجن كل ذلك في رمالها وترابها، وتُنبته مرة أخرى.
في اليوم الواحد تستطيع أن ترى الفصول الأربعة متعاقبة، ومتداخلة دون حدود واضحة.
ففي الشمال حد البحر الأبيض بأمواجه الزرقاء الآتية من القارة الباردة، ينحر في شفتها العلوية، محاولاً استرداد زمنه الأول حين كان سائداً ومغطيـًا لصحاري كثيرة. وفي الجنوب امتداد رملي جاف لا نهاية له بطول نهر النيل تتخلله بعض المرتفعات الصخرية الصلبة، وقنوات مائية جافة، تبخر ماءها، وبقيت كخطوط رفيعة على الخرائط الطبوغرافية. وفي الغرب صحراء ليبية مماثلة، جائعة ومتعطشة إلى الناس والماء. وفي الشرق مجرد خط زراعي أخضر مرسوم بالقلم على ضفة النيل، كجسر يحجز حركتها التي تُصحر الحياة ويمنعها من الانقلاب في الماء.
لذا يتلثم البدو بالقماش الأبيض الخفيف، الذي لا يمتص حرارة الشمس، فيبعث الرطوبة في الرأس والوجه، ويرتدون الجلابيب البيضاء لحفظ أجسامهم من الاحتراق.
الشيء اللافت أن النساء، تتشحن بالأسود الذي يغطيهن بكاملهن، ويُزيد من صهدهن فتتبخر الشحوم من تحت جلودهن، تراهن نحيفات، سمراوات، خفيفات كالظل، يستطعن المشي والرعي لفترات طويلة دون تعب أو إرهاق، يدفعن أزواجهن إلى المزيد من الراحة بما يتحملن من أعباء، تفوق ما يتحمله الرجال.
*
تحرك الجملان ولحقا بالقافلة، وهما يتباحثان في أمر تلك المخلوقات التي ظهرت حديثـًا في مملكتهما، تتنقل بعربات مختلفة الأحجام، تسكن في علب حديدية كبيرة، بالقرب من ذلك الهيكل الحديدي الضخم، الذي يحفرون به الأرض، يثقبونها ويستخرجون من باطنها سائلاً أسود، يعبئونه في "تنكات" كبيرة، يمدون له مواسير صلبة، تمر من تحت أرجلهما في خط متصل، يضعون على امتداده علامات بالأحجار الجيرية، وأسهم معدنية في بعض الأماكن حتى وصوله إلى الميناء المتحرك المقام على شاطئ البحر.
دعا الجملان رفاقهما إلى زيارة للبريمة لرؤية هؤلاء البشر عن قرب وهم يباشرون عملهم، أكلت من العشب وتراصت في صف يتقدمها كبيرها، وبدأت المسيرة.
تلك الجِـمال كعادتها، تخرج في الصباح بعد أن تكون قد شربت، وملئت مَعداتها الثلاث، من بئر حفره لها صاحبها أمام داره، تتحرك في الصحراء بحثـًا عن عشب طازج تأكله، تقطع أودية ومنعطفات وتبعد مسافات طويلة، بخفوفها السميكة التي تحميها من الحرارة وتمنعها من الغوص، وتعود وحدها بعد أيام حين تحس بحاجتها إلى الماء، متغلبة على الريح المحمل بالرمل الطائر بأهدابها الطويلة، ومقدرتها على غلق فتحتا أنفها، ترجع إلى البئر وفق خريطة مطبوعة في ذاكرتها، لا تخطئها، يأتيها ذلك الصبي متتبعـًا أثرها بحثـًا عنها من آن لأخر، ليطمئن إلى وجودها، ثم يعود من حيث أتى.
*
عاد صميدة راكضـًا إلى داره، تسبقه فرحته، أخبر أمه وأباه الشيخ عبد الرحمن أنه سيذهب في الصباح للعمل في البريمة، فقد وعده المهندس تامر حين خلصه من الجملين.
هز الأب رأسه دافعـًا إليه ابتسامة خفيفة. قال:
- كم سيعطيك في اليوم؟
- مثل إخواني.
فكر قليلاً، ثم قطب جبهته، لعله أدرك مغزى سؤال أبيه، فهو ما زال صغيراً، وهذا ما جعل الحاج ناجي، الذي يُورد العمال إلى البريمة يستبعده من العمل.
بينما باب الحديث مفتوح على فناء الدار، هبت أصوات عاصفة، حملت الرمال في سحابة مرت من فوق رؤوسهم، لفت في الفراغ محدثة صراخـًا، خرج الشيخ عبد الرحمن إلى الحظيرة الكائنة أمام باب حجرته، هش الأغنام القليلة، أدخلها تحت غطاء مُهتريء من الوبر، مرفوع على أربع دعامات خشبية، ومثبت بأوتاد خيمة.
كان العواء يأتي من نهاية الصحراء، تبثه أرواح آلاف الجنود، الذين أتوا من بلدان ثلجية إلى أفران تحميها الشمس وتُسعر نارها كلما أطلت في وجوههم البيضاء.
تذكر الشيخ كيف كانوا يتساقطون أمامه واحداً تلو الآخر من ضربات الشمس، فيجمع لهم الأعشاب، ويتتبع لهم الأثر، يدلهم على مرانب الأرانب البرية، ومكامن الثعالب، ودهاليز الحشرات والثعابين، يدفع عنهم أذى أفعى "الطريشة" المتواجدة بكثرة، ذات الحركة الحلزونية، والتي قفزت على أرجل الكثيرين منهم فأماتتهم في الحال.
ورغم هلع قائدهم إلا أن الأمر كان يمر سريعـًا، ويذكره بما طلبه منه من أعشاب "الترقاس" التي توصل إلى فوائدها، حتى أنه كان يبعث معه بعض الجنود لجمعها من الصحراء، يحصد منها كميات كبيرة، يرسلها إلى رؤسائه في أوروبا مع رسالة مختصرة، كختم على اللفافة:
(لا تنس الترقاس لتسبح بقوة في بحار الحب الساخنة).
ويذيلها بإمضائه "مونتجمري".
*
عبد الرحمن الشاب اليافع في ذلك الوقت، يتواجد في معسكرات الجيش الثامن بشكل دائم دون أن يستوقفه أحد، لتعامله مع القائد الذي يكلفه بأشياء كثيرة ينجزها بمساعدة الجنود، وقعت عيناه على الملازم "دونا ماكسويل" التي تعمل في الصليب الأحمر، أغرقه موج التيه، خبط رأسه بكفه، أغلق عينيه على رجليها البضتين، اللتين تشفان بوضوح من تحت "الشورت" العسكري.
ابتسمت له، مدت يدها لتسلم عليه، وعلى وجهها إقبال شديد، مبتسمة تتطلع في ملامحه المعجونة بماء الشمس الحار، المستوية لتوها في أتون الصحراء.
استقبلها بحرارة شديدة، ضغط أصابعها بكفه الخشنة، وَدَّ ألا يترك الدفء الذي هبط عليه ونام في أوردته فجأة، تنبه لخطوات قوية تقترب فتراجع تاركـًا يدها، وهو مشدود إلى تلك الحورية البرونزية، ولا يرى غيرها أمامه، بدأ يكتشف تلك الكائنات من البشر، يستحضر ملمسها في كفه.
كانت تكلمه بعربية مكسرة، فيلقي إليها ببعض الكلمات مشيراً إلى معانيها بحركات من يديه، فتكررها وراءه، يتشرب وجهها الأبيض وعينيها الزرقاوين تشدانه إلى ساحل البحر، تسلمه للهدير المتلاطم وتتركه في الأعماق، فيغمره قلبه المتدفق ويغرقه.
*
ثبت عمامته ضاغطـًا على أذنيه، رأى الخطوات القادمة واقفة أمامه. أتى الطبيب "شاوصن"، متجاهلاً وجوده، كأنه لا يراه تحدث إلى "دونا"، وعاد بها إلى الخيام الطبية.
ظل واقفـًا، ينظر في عين الشمس بقوة، يود أن ترفعه إليها، ليرى الكون بقلبه الجديد، ليطير في سماوات السعادة ويغترف من جنانها، شعر بقطرات العرق تتدفق وحرارته تتصاعد، كانت كل ذرة فيه تنصهر، وتغوص بين حبيبات الرمل.
*
فوق تلك السهول المنبسطة تنتفض خطوط شحنات كهربائية، تمر لامعة تخطف العيون لترسم أشجار البرق الفضية اللامعة، وتسرج الجو، فيتعارك جَـمل الصيف مع جَـمل الشتاء. يوشك الكون على الانهيار، تهتز السحب الثقيلة تحت أصواتهما العنيفة، يتوالد الرعد المتشعِّب، الذي يكسح السيول بعد تلك الهبة القوية للريح، ويغسل الأتربة، يتصالح الجملان حين يتفقان على أن يتجاورا في سلام ويفسحا المشرب لبعضهما، يشربان من المياة المنهمرة التي تتحول إلى برك ومستنقعات، تمتصها الرمال بشراهة وتغلغلها تحت السطح، منتقمة من الجفاف الذي يُذلها لفترات طويلة.
*
ابتهج البدو بالأمطار التي ينتظرونها عامـًا كاملاً، خرجوا يبذرون بذور القمح والشعير والشوفان في تلك البقع المبللة، المتناثرة في فضاء الصحراء، موغلين في العمق الجغرافي باتجاهاته الأربع، يضيفون إلى أرضهم مساحات أخرى، ويقسمونها بالتساوي فيما بينهم بالكلمة التي يأخذونها على بعضهم كسجل لا يحيدون عنه، يحفرون آبار المياة أمام جدرانهم المتهالكة، يروون عطش إبلهم وأغنامهم وحميرهم التي تنقلهم من مكان لآخر، فمعظم الحيوانات في الصحراء لا تشرب مكتفية بما في غذائها من ماء. وهم يشربون لبنها للتغلب على الحر، فيرطب جلودهم بنعومته.
فضلاً عن فرحهم بنباتات "الغرنبوش"، و"الميدك الحولي"، و"الكريشة"، و"الحطيب"، و"الجلبان"، أنواع عشبية كثيرة تتميز بخاصية إعادة البذور ذاتيـًا دون تدخل منهم، تستطيع النمو حتى في الجفاف القاتل، فيطعمون بها حيواناتهم، وأحيانـًا يأكلونها دون غضاضة، لاحتوائها على البروتين بنسب عالية.
*
وقفت حشرة طائرة كانت في طريقها إلى جحرها الرملي متطفلة على سنام الجمل الكبير، الذي يتقدم القافلة المتجهة إلى البريمة، أرادت أن تشاغبه قليلاً قبل أن تذهب إلى بياتها، كطفل شقي طقطقت بفكيها الصلبين، فتردد صوتها وعلا فوق رؤوس الجِمـال، انكمش السنام وانبسط عدة مرات محاولاً طرد تلك الغريبة المشاغبة، التي التصقت به، نزلت إلى فخذه راشقة خرطومها الإبري في لحمه، بَرَكَ على الأرض، تقلب في التراب، دافعـًا عنه اللسع الذي أصابه، بركت القافلة تلقائيـًا وراء قائدها، وسكن الصوت مع طيران الحشرة بعيداً، وهى تقهقه لِمَ سببته من أذى، معلنة عن وجودها وملكها لجزء من تلك الأرض.
بدت الجِمال من بعيد كَوَبرِ بني ضارب في الاحمرار، يتجمع في الصحراء، مكونـًا خطـًا دائريـًا، تاركة وراءها آثار خفوفها كمجرى مائي جاف. وذلك العصير المخاطي الأبيض الممزوج ببطش خضراء يتدلى من شفاهها الغليظة ذات اللون الوردي الفاتح، وهى تلوك العشب.
التفت في دائرة ضيقة حول كبيرها، وفتحت آذانها.
كانت عيناه شاردتان، وصوته المتصل يُخرج من ذاكرته أعشاب أكلها عند رؤيته لتلك المخلوقات للمرة الأولى، منذ زمن طويل، هؤلاء الآدميون الأتون مدرعين، والمختلفون عن راعيها، في ملابسهم، وأدواتهم، ودوافع وجودهم، وعرباتهم، وآلاتهم التي تنشر النار وتفرق في الجو.
فمن قبل لم يكن الحذر يلتصق بمخدات أرجلها وهى تدب في الصحراء، منطلقة ومرحة، عالمها خاص بها منذ خُلقت، تترك نوقها آمنة إلى أن لا شيء سيؤذيها، وحين أتى هؤلاء المسلحون، ولغّموا بساطها، صار الموت متربصـًا بها، ملتصقـًا بخفافها الناعمة.
*
أعلن "موسوليني" مؤازرة "النازي"، ودخول بلاده الحرب طمعـًا في التحكم في البحر المتوسط وقناة السويس، لأنها رأت أن من يتحكم في هاتين البوابتين يستطيع أن يجذب ذلك الحبل ويخنقها، يشد الحذاء من قدم أوروبا –كما تبدو خارطتها - أرادت أن تسيطر عليهما لتحمي نفسها، من هجمات البرابرة، وتَطلُّع البلاد المجاورة للدخول في أعماق البحر من خلال جُذرها.
*
بدأت المناوشات بين الدوريات العسكرية في منطقة الحدود مع ليبيا، احتل "سيدي براني"، ثم تراجع وسقطت منه "برقة" الليبية تحت زحف النمل البريطاني الأبيض..
..كَرُّ وفَرُّ لخمس مرات..
فحين سقطت منه "طبرق" تجنـزر وتلاحم مع محوره الألماني في هجوم جارف، استولي على كل ما قابله.
وفي مدينة "بنغازي" وقف مبتسمـًا أمام جملة قرأها مطلية على جدران منازلها.
(حافظوا على نظافة هذا المنـزل، سنعود إليه قريبـًا).
شُوهدت الأعلام مدلاة من أسطحها تحمل نفس العبارة، فقد كانت طرابلس ملجأً للإيطاليين في بداية الحرب ونهايتها، ونظم مونتجمري منها دفاعـًا رهيبـًا لتعطيل قوات غريمه لفترة لم تزد على اثني عشر يومـًا لينسحب بقواته المتهالكة، تاركـًا وراءه أكبر حقل ألغام في العالم، بقى حقل "البويرات" على بعد مائتين وخمسين كيلو متراً شرق طرابلس، والذي زرع فيه مائة وخمسين ألف لغم بمعدل أكثر من عشرة آلاف في اليوم الواحد، متأهبـًا للانفجار بشكل دائم، مانعـًا الأرجل من الاقتراب منه، مزلزلاً الأرض تحت حوافر الحيوانات الضالة، وناثراً لحومها على الرمال.
*
( 3 )
في الطريق عرج الصبي صميدة على دار الشيخ حمد - صاحب الجمال التي يرعاها - سلمه كلمته وخرج ليسبق شعاع النهار جريـًا.
كانت السيول قد أضاعت المعالم الممهدة المؤدية إلى البريمة، وخلطت الطريق بما حوله من رمال وأعشاب، وهو لا يبالي بحال ما تحت قدميه، فقط يغني شوقـًا إلى إخوانه الذين يعملون هناك، وذهابه لينضم إليهم، ليصبح في مقدوره أن يمسك الجنيهات بين أصابعه، ويشتري ما يريد دون انتظار مساعدة من أبيه أو أمه، والأهم من ذلك أن يكف عن السير وراء الإبل التي تشده إلى مسافات بعيدة يضطر معها أن يبيت إلى جوارها في الطّل، ويفقد صحبة رفاقه لفترات طويلة، معرضـًا نفسه لمخاطر الضواري، ففي رعيه لم ير الأموال الورقية ولو من بعيد، لم يتحسس رائحتها التي تلون إخوانه بالزهو، حين يعودون إلى الديار ليومين أو ثلاثة كل شهر، وأحيانـًا كل خمسة وأربعين يومـًا.
حين انتصفت الشمس في قلب السماء، شاهد برج البريمة، فأسرع خطواته في اتجاه الخيمة النائمة على حدود ملعب الحفر، كما بدا له من بين "الكرفانات" المعدنية التي يبيت فيها المهندسون والعمال.
تهلل حاجباه بالدهشة، وعيناه تقعان على قافلة الجِمـال التي سبقته، وجدها متناثرة حول الموقع، تصطاد العشب وتشرب من الماء العذب، الخارج من المواسير البلاستيكية إلى حفرة خلف "الكرفان" المخصص للمطبخ.
حيته برقابها فأشار لها بيده، حرك ذراعه بشكل خاطف، كأنه ممسك بحطب وهمي يداعبها به.
*
ذهب الشيخ حمد إلى دار الشيخ عبد الرحمن، جلسا يتحدثان أمام نار الحطب، وبخار الشاي المخلوط بأوراق "الشيح" يولد سحابة ذات نكهة حلوة تخترق أنفيهما، فيمددان أرجلهما على الحاشية، قال الشيخ عبد الرحمن:
- منذ وقت طويل لم تأت إلى داري يا شيخ حمد!
- والله، أنا مقصر معك يا شيخ عبد الرحمن.
- وكيف حال تجارتك الآن؟.
- بخير، ولكن أنت تعرف الإبل تحتاج إلى رعاية، والشباب انفلتوا من بين أيدينا، لا تجدهم اليوم، حتى ابنك صميدة، سلمني زمامها وهرب.
- هوس البترول يا شيخ حمد جنن العالم، فما بالك بأولاد لم يروا الجنيه من قبل.
- معك حق.
- البريمة واقفة في وسط الصحراء مثل المقام، الكل يريد زيارتها
والتمسح بحديدها، يمكن يطوله البركة.
- فعلاً الزمن بقى غير الزمن.
- هل نسيت حالنا ونحن شباب، والحرب هربت من الدول ووصلت إلى هنا، والقادة المجانين عبروا البحر بجيوشهم، وجروا وراءها.
- مرت الأيام بسرعة.
- والله ما زلت أذكرها جيداً يا شيخ حمد.
- قصدك الحرب أَم الملازم الجميلة يا شيخ عبد الرحمن؟!.
- الفاتنة "دونا ماكسويل".. آه منها.
تحسس قدمه اليمنى، جذب عليها طرف جلبابه، أمَالَ أذنه تجاه الجمر.
- احترس، أم صميدة ستسمعك.
- أنت واهم يا شيخ عبد الرحمن.. أتعتقد أنها لم تعرف تلك القصة حتى الآن؟!
ضحكا معـًا ضحكة عالية، أعادت الدم إلى جلودهما المتغضنة، قَلّبَ الشيخ عبد الرحمن جمر النار وأعاد ملء البراد، أمسك جمرة بيده ودفسها في الرماد. قال:
- ما زالت علاماتها في قلبي مثل تلك الجمرة المتوهجة..
.. مثل ختم الإبل على لحمها..
.. آه.. "دونا".. لو أعلم أين مثواك.. لقطعت الصحاري
ليلاً ونهاراً بحثـًا عنك.
- بعد كل ما مضى يا شيخ.
- ماذا أصنع، العشق يا حمد يفتت الصخر.
*
كان عبد الرحمن في صباه يرعى الماعز والأغنام، يشق الأودية ويصعد التلال، واضعـًا عصاه على كتفيه، مرتلاً مزامير الرعاة التي يتوارثونها جيلاً بعد جيل، تصبح هي الحوار الأبدي ما بين الراعي والطبيعة والحيوانات، لغة مشتركة تلم شمل الكائنات تحت مظلة الإله.
استقر في الضبعة مع أهله، بعد أن جابوا الفيافي مسحـًا لكل اتجاهاتها المنبسطة، وزواياها المنحدرة من الجبال والهضاب، حتى أن المسار الذي أتى منه غاب عن ذاكرته، فتارة يذكر أنه أتى من الشرق، وتارة من الغرب، وأخرى من الشمال أو الجنوب، فحين تتعامد الشمس فوق رأسه مباشرة تتوه المسارات، تصبح النقطة التي يقف عليها في حينه هي كل الكون، وثنيات الغرود الرملية الهائجة تزحف باستمرار مُطيعة لاتجاه الريح، بحثـًا عن الراحة تغطي العشب، تتراكم فوق بعضها صانعة تلالاً كأسوار القلاع، تدفعه إلى البحث عن مراعٍ أخرى لحيواناته الجائعة، التي تتحمل الآلام على مضض، مُظهرة بريقـًا سائلاً يهطل من أعينها يدعو إلى الشفقة. تنفق الصغار والضعاف في الرحلة الشاقة قبل أن تجد مكانـًا يداويها بجذور عشبية متبقية، أو بقطرات ندى عالقة.
ذلك هو موطنه، وإن كان من آن لآخر يفضل أن يعود بجذوره إلى قبائل "أولاد على" المنتشرة غربـًا، لما لها من عراقة وسمعة بين البدو والرحالة.
*
حين صهرته الشمس وهو واقف أمام الخيمة الطبية، دلف إلى الداخل وظهر كفه على جبهته، أراد أن يحصل على مُسكِّن لألم رأسه، وجدهم يهنئون الطبيب "شاوصن" والملازم "دونا ماكسويل" على خطبتهما، وقف بلا حراك يتطلع إليها، لا يدري ما الذي أصابه، ولماذا شعر بخنجر مسموم يرُشق في صدره بعنف، ويثبته في الهواء.
نشط تحت جلده الشطط، وَدَّ أن يحرق المعسكر بأكمله، أن يفجره حتى لا تبقى ذرة رماد تدل على أحد من هؤلاء العجم الذين يبتسمون في وجهه، ولا يرون النار المشتعلة تحت جلبابه.
خرج الخطيبان، ركبا العربة وسلكا الطريق المؤدي إلى الإسكندرية، ليتزوجا في القنصلية الإنجليزية.
والإطارات عَبـّرت عن سخطها فدفعت الغبار، ونفخته في وجهه الشارد في دنيا القلوب المعذبة.
هام على غير هدف، يتسكع في الصحراء، اقتطف وريقات من عشب ذي حواف خشنة متعرجة، داكن اللون، مضغها وتمدد على الرمال، لفه القيظ في سرابه، قام يجر قدميه، ترنح ووقع على انفجار مدو، بَـتَرَ له إصبعين من قدمه اليسرى، وأحضر له فرقة من المعسكر، وجدها فوق رأسه في لحظات.
لم يشعر بألم من جراء ما وقع له، فقد كان قلبه مطعونـًا، ينـزف بغزارة، طغت على كل الآلام.
*
الحب حين يولد يخلق قانونه الخاص به، الذي لا يركن إلى عقل أو منطق، فتلك الحسابات والقوانين هي من صنع الدماغ في لحظات رائقة، يكون فيها القلب ميتـًا، والحياة في الصحراء تترك المشاعر لتنطلق بحرية على طبيعتها.
فحين رأى القائد ذلك التجاذب بين الملازم "دونا" والشاب عبد الرحمن، ناداها في خيمة مكتبه، وسَدَّ عليها الباب.
خرجت بعد ساعة، وجهها شديد الاحمرار، تخفي ارتباكـًا، تسوي ملابسها، وتُدبّس شعرها الطويل.
خرجت "دونا ماكسويل" أخرى غير التي يعرفها عبد الرحمن، الذي لم يشعروه بأن هناك شئ غير عادي يحدث في المعسكر، بل طلب منه إحضار المزيد من الأعشاب لتصديرها مع بعض الأفراد المسافرين.
بعد يومين رتب القائد أمر زواجها من الطبيب "شاوصن".
أدار القمر وجهه المعتم له، تاهت المعالم تحت قدميه، وتخبط في الظلام.
تغيرت تمامـًا معه، لم تعد تتحدث أو تنظر إليه عندما يتواجد في المعسكر، بل كانت تختفي داخل الخيام التي تعمل بها.
كان يأتي ليقتات من بعيد لقمة جافة، يُسربها إلى قلبه، يتقوى بها على العيش، فيبتلع في جوفه نظرة صامتة ويعود منـزوع اللسان، مقبوض الصدر لا يقوى على حمل جسده المنهك.
أي عذاب صَبّه فوق رأسه بذلك العشق الصامت، الذي يُغذي بناره، ويُطفأ بثلجها.
أشهر عديدة مرت وهو لا يجرؤ على الاقتراب منها، يمنعه عدم نظرها إليه، تجاهلها له كأنه ارتكب شيئـًا آذاها، ظل على ذلك التردد والإحجام حتى سافرت إلى بلدها عندما حملت لكي تضع مولودها الأول بين أهلها.
*
هبط طائر الرُخ وانتزعها من بين ذراعيه، حملها بين مخالبه، رفعها وطار إلى واديه البعيد، وهو في القاع يحاول أن يتشبث بشيء منه، أمسك ريشة وارتفع معها، جدف في الهواء إلى أن سقطت به في سفح عميق، اختطفها وحلق إلى ما لا يقدر على الوصول إليه.
عاد إلى دياره، ذهب إلى العرافة، خلطت له الصبر مع جذور عشبية وسقته العلقم، وهو ملقى على الرمل، يفكر في وسيلة يداوي بها قلبه المنهوش، يبحث عن متاهة يجذبها إليها، وشباك حديدية لاختطافها حين تعود من سفرها، صمم على أن يُركبها أمامه على ظهر جمل أسود بسنامين، غريب عن المكان، سد عينيه بقماش أحمر، ودفعه في لحمه ليشرد بهما في اتجاه جذوره على الحدود الليبية.
*
(4)
دخل صميدة إلى الخيمة، وجد جويدة نائمـًا، هزه بأصابعه فانتبه، قفز من نومه، أخذه بين ذراعيه.
- كيف حالك يا صميدة؟.
- الحمد لله يا جويدة.
- وكيف أخبار الضبعة والأهل؟.
- كلهم بخير.
شرع في إشعال الحطب، وإعداد الشاي في مدخل الخيمة. قال:
- هل أغوتك الجِمـال بالرعي هنا؟.
- لا.. أنا هنا للعمل.
- هل قابلت الحاج ناجي؟.
- لا.. قابلت المهندس تامر.
- لقد أتيت في الوقت المناسب، حان موعد ذهابي إلى "التنكات"، هيا لأريك الإخوان.
شرب الكوب دفعة واحدة، لبس "أفروله" الأزرق، دس قدميه في الحذاء الطويل، سحبه من يده. قال والابتهاج يغمره:
- لنذهب أولاً إلى المهندس تامر في "كرفانه".
تباطأ في مشيه خلف جويدة، عيناه على تلك الآلة الضخمة، التي يبدو كل شئ حولها قزمـًا مهملاً، أحس أن هناك ما هو أقوى من الجِمال والصحراء و"الطريشة" والعقارب والثعالب، والضبع، وأن صوت مولدات الكهرباء المرتفع يُرهب أكبر عفريت في الصحراء.
أبصر صديقه يدق باب "الكرفان" فلحق به، متخففـًا من علامات انبهاره ودهشته، عندما رأى أحد العاملين يقف على شرفة مثبتة قرب تاج البريمة، يبدو له من مكانه كعصفور يتحرك على فرع شجرة كافور عملاقة، تخيله وهو يتعلق بالسلك المثبت تحت قدميه، والمائل حتى وصوله إلى الأرض على مسافة بعيدة، صانعـًا زاوية حادة، وينـزلق معه إلى الوتد المدقوق في صبة خرسانية.
سأل جويدة عن فائدة السلك الرفيع الممتد، فأجابه بأنه سلك الهروب لذلك العصفور النطاط فوق العوارض الحديدية، إذا ما حدث أمر ما يستدعي ذلك. سأله عما يقوم به في ذلك المكان المرتفع، فأخبره بأن مهنته خطرة، لأنه يحرك وصلات مواسير الحفر، ويدفع طرفها العلوي لتثبته الأذرع الميكانيكية في مساره، لاستكمال الحفر إلى العمق المطلوب.
هلل قائلاً:
- متى عرفت بكل هذا؟!
- لا تستعجل.. فالأسئلة الكثيرة عما لا تعرفه سوف تقفز من لسانك.
*
هاجم الضبع الشارد إبل الشيخ حمد فأصابها في أرجلها، لكنه لم يقدر على الخطف منها، تسلل في البلدة، خطف واحدة من أغنام الشيخ عبد الرحمن واختفي.
خرج الشباب مسلحين بالخناجر والعصى يبحثون عنه، جابوا الأودية والتلال والسهول، وعادوا دون أن يفرغوا شحنتهم ورغبتهم في الانتقام. قال أحدهم:
- لقد هرب هذه المرة أيضـًا.
رد الشيخ حمد:
- هذا الضاري اللعين من أين يأتي؟!.
أضاف آخر:
- لابد أنه قريب من هنا، إنه يحفظ بيوتنا وطرقنا وممراتنا.
انفضوا بعد أن واسوا الشيخ، أحصوا معه أغنامه القليلة، منبهين على بعضهم البعض بإغلاق الأبواب جيداً.
تأبط ولدان بعضهما، تركا الجمع، سحبتهما أقدامهما إلى الخلاء، منهمكين في حديثهما، جلسا على ربوة بعيدة، تطل على ديارهما المتلاصقة، انتبه الأصغر إلى شئ، لفت انتباه الآخر قائلاً:
- شكل ديارنا غريب جداً. أول مرة أراها من هنا.
نظر الآخر في نفس الاتجاه. قال:
- شكل الضبعة الكبيرة تمامـًا، أليس كذلك!.
- ماذا تقول؟!.
- حكى لي جدي عنها قبل موته. ألم يحك لك جدك؟!.
- لا.. عن أي شئ؟.
سكت للحظة. قال:
- ممكن تحكي لي؟.
انقلبا على ظهريهما، فتحا أعينهما على مفرش السحاب الأزرق، بدأ الذي يعرف في التدلل والغموض، ثم انصاع إلى رغبة الآخر حين وجده على حافة الشوق والعطش إلى ما يخبئه عنه.
*
قال وهو يشبك كفيه خلف رأسه، واضعـًا قدمـًا على الأخرى، ومحركـًا أصابعها:
- نبع ماء في المكان الذي بُنيت فيه ديارنا، هو سبب تجمع أهلنا في تلك البقعة الصحراوية، فقد كانوا يتبعون دوابهم في رعيها، ينصبون الخيام لفترات في أماكن متفرقة في الصحراء صيفـًا، يمشطونها طولاً وعرضـًا بحثـًا عن أثر لنقطة ماء، شاهدوا طيوراً تهبط على مقربة منهم، تتبعوها، وجدوها تتحنجل جانب تلك العين، مقتربة في حذر، أعينها على باب كهف قريب من الماء، لمحوا ضبعة تنام فيه، توجسوا واحتاروا، فماذا سيصنعون مع وحش مفترس، وهم بلا أسلحة.
توقف عن الكلام، فدفعه الآخر زاجراً إياه في جنبه. قال:
- ماذا فعلوا؟.
قهقه وواصل تشويقه في سرده المتقطع:
- سبقتهم الدواب إلى الماء، وهم واقفون يفكرون، في طريقة يقتربون بها.
خرجت الضبعة تتنطع مباعدة ما بين أرجلها، وهابطة ببطنها إلى أسفل.
الغريب أنها لم تهاجمهم أو تهجم على الماعز والأغنام، بل عادت إلى الداخل ورقدت. نصبوا خيامهم بقلق، بعد فترة ألفوا وجودها، وألفت وجودهم حولها. وفي المرات التي يرجع فيها الضبع من الخلاء ثورته عالية، تخرج إليه وتهدئه، يدخلان معـًا إلى كهفهما. كان أهلنا يذبحون من دوابهم لمعيشتهم، ويضعون قطع اللحم أمام باب الكهف. وعُرف المكان بينهم وبين الوافدين بالـ "الضبعة".
قام من رقاده، وبدأ يحرك ذراعيه في حركات تمثيلية مصاحبة:
- ومع الوقت ملّسوا حوائط الخيام بالرمل المبلل المخلوط بالحشائش، رفعوا البيوت. شعر الضبع والضبعة أن الظل يزداد حولهما، سلوك الحيوان كان طبيعيـًا، لا صراع طالما أنه لديه ما يكفيه.
الشيء الغريب أن نفوس الناس لم تكن صافية تجاههما، ظلوا يفكرون ويتحينون الوقت الذي يقضون فيه على الوحشين، انتظروا خروجه المعتاد إلى الوادي القريب. جمعوا أوراقـًا كثيرة من نبات مخدر، عصروها، وانتظروا ميعاد شُرب الضبعة، رشوه على وجه الماء، شربت منه وعادت إلى الكهف.
لم تدر بما فعلوه بها. ربطوا فكيها إلى بعضهما وأرجلها، ذبحوها وسدوا عليها باب مأواها.
أشعلوا النار، صفقوا بفرح، دقوا الطبل، رقصوا واللحم المشوي في أيديهم وأسنانهم يدخن وينـزلق إلى أجوافهم، هنئوا بعضهم بقضائهم على ما يُخيفهم.
عاد الضبع متبختراً لا يدري ما ينتظره، أزاح الصخر من أمام بيته، جُن، هاجمهم في حرب مميتة، أصاب ثلاثة منهم، وجرحوا رقبته وظهره بآلاتهم وسكاكينهم.
تكتلوا أمامه، ولوحوا في وجهه الخناجر والعصي، فتراجع صاغراً، يبحث عن مكان جديد، دون أن ينسى ذلك الغدر الذي قضى على رفيقته، وأفقده كهفه، وضرب به في الصحراء شريداً بعد أن كان يحيا في هدوء، آمنـًا مستقراً.
اعتدل في جلسته، سأل باهتمام:
- ماذا بعد ذلك؟
- كما رأيت اليوم، فمن آن لآخر يأتي إلى هنا محاولاً الانتقام، ولا يقدر إلا على الأغنام والخراف والماعز.
*
عاد الولدان إلى ديارها يقلدان صوت الضبع، فاصطكت الأبواب في وجهيهما، تطلع الناس من خلفها، ممسكين في أيديهم بأدوات مختلفة للمقاومة، والدفاع عن حيواناتهم، حين تلاشى الصوت بدخول الولدان إلى أهلهما، وبخوهما على تلك الحركات الصبيانية، أوقفوهما بجوار الحائط، أجبروهما على الخروج بالأغنام، حتى تعود السكينة، وتهدأ قلوب الناس المذعورة.
*
( 5 )
طغى صوت مولدات الكهرباء الكبيرة في البريمة على كل شئ، أحس الجيولوجي تامر بالضجر، ذهب إلى وحدته الخاصة بتحليل الصخور الناتجة من الحفر، وجد زميله عبد المطلب عبد السلام يعكف على "الميكروسكوب" الضوئي، وضع يده على كتفه، فرفع عينيه ثم أعادهما إلى العدستين. قال:
- أهلا تامر.
لم يرد، أخبره أنه يشعر بملل، وأنه يود أن يسافر إلى القاهرة اليوم.
- لكن ما زال أمامك ثلاثة أيام حتى يأتي بديلك.
- أعرف، ولكن..
- تعال يا صديقي، ساعدني في التعرف على هذه العينة، أعتقد أننا اقتربنا من صخور الخزان المستهدف.
جلس مكانه، نظر في العدسات الزجاجية، وضبط الإضاءة. قال:
- لا أرى شيئـًا، أنا متعب اليوم.
وعيناه في الإطارين المطاطين للعدستين التقط عبد المطلب حبات من العينة بالملقط، وضعها في حاوية خزفية بيضاء، تحرك باتجاه جهاز "الفلورسكوب"، وضعها فيه من خلال بابه الصغير، أدار مفتاح إطلاق الأشعة فوق البنفسجية التي تنطلق من لمبة صغيرة، سكب بضع نقاط من مذيب الزيوت فوقها، ومن خلال عدستين علويتين أمكنه رؤية ما إذا كان الصخر حاويـًا للبترول من عدمه، حيث يتوغل المذيب ويتفاعل مع الخام النائم في مسام الصخر، مكونـًا سحبـًا متداخلة كثيرة بألوان مختلفة، تغطي وجه الحبيبات الصخرية الدقيقة.
قال:
- سالب.
- هيا بنا نشم الهواء.
- إلى أين؟!
- إلى البراح والهواء الطلق.
نظر في ساعته، ألقى نظرة على قراءة مؤشر "الطلمبات"، حَسَبَ الوقت التي ستخرج فيه العينة الجديدة إلى المناخل المعدنية. قال:
- أمامنا ساعة واحدة.
- ياسيدي، لا تقلق سوف نراها مع ما سيخرج بعدها.
*
خرجا معـًا، يتمشيان بجوار الموقع. دعاه عبد المطلب إلى كوب من الشاي المصنوع على الحطب. مرا على خيمة العمال، لم يجدا أحداً، نظرا خلفهما، وجدوهم منتشرين حول البريمة، منهمكين فيما يقومون به، تركا الفكرة أمام الباب حتى يعودا.
توغلا في امتداد الصحراء، لكنهما حافظا على أن تظل أعينهما ترى البرج، حتى لا يضلا المسار.
قال عبد المطلب:
- وجدت هنا الأسبوع الماضي قميصـًا ملطخـًا ببقع من الدم المتصلب، وكان باليـًا.. واضح أنه من بقايا الحرب.
- ماذا صنعت به؟.
ضحك في وجهه قائلاً:
- لبسته.. ألا تراه تحت "الأفرول".
وأضاف:
- حركته بعود من الحطب، فوجدت تحته عقربين أسودين، دارا حول بعضهما ذعراً، رافعين سمهما.
بينما هما يتحدثان وأعينهما تحت أقدامهما، مر من أمامهما أرنب بري بسرعة خاطفة.
انتبها له، فجريا خلفه، دقق عبد المطلب في الأرض، محاولاً تتبع الأثر، وجد بعض الأظافر مطبوعة في الرمل، لكنها اختفت بعد تسعة أو عشرة أمتار على الأكثر، رغم أن الأرض أمامهما منبسطة وخالية من أي شيء يمنع الرؤية.
ولم يعثرا له على رائحة.
قال تامر:
- تُرى أين ذهب؟!.
- لابد أنه دخل في مَرنبته.
- إذن بيته هنا؟!.
- أخبرني جويدة أنه يستطيع أن يتتبع تلك العلامات.
- هيا نعود ونأتي به، ليتني أحضرت البندقية.
- أراك قد تحمست، مرة أخرى.
- أنت تعرف كم أحب الصيد.
- بالمناسبة لقد سألني صميدة عن لقبك فضحكت. هل تعرف سببـًا؟.
ابتسم وعيناه تدوران، قال:
- تقصد "الدكر".
- نعم.
- أخبرني أبي عندما سألته يومـًا ما عن سبب اختيار جدي لهذا الاسم لابنه، فضحك وقال لي:
(إن جدك صعيدي، أنجبت له زوجته خمس بنات، وعندما
ولدت، أسماني هكذا.. هذا كل ما في الأمر.. فهل
تخجل منه؟).
- وماذا قلت لأبيك؟.
- طبعـًا، قلت له: (بل فخوراً به).
- لابد أن أباك قد واجه مآزق كثيرة مع اسمه الخشن، ولهذا أسماك "تامر".
- وأنت أليس اسمك مركبـًا حتى ثالث جد يا بن عبد السلام جاد الله.
ضحك الاثنان وهما يجريان وراء بعضهما، ناسيين الأرنب المراوغ، يعلو نداؤهم بأسماء الحيوانات ذات القدرة على الاختفاء السريع والظهور فجأة دون مقدمات.
*
تخلص تامر من القلق والتوتر المسيطرين عليه لفترة، جلس فوق صخرة، استراح من الجري، أشعل سيجارة، سأل عبد المطلب عن ظروف التحاقه بالعمل في الشركة، خاصة أنه لمس فيه لهجة وملامح ريفية قربته منه، أشعلت شمعة الدفء في علاقتهما.
أخبره أنه استطاع بصعوبة شديدة أن يحصل على ذلك العمل، فالأبواب جميعها مُقفلة، ولا تُفتح إلا بدقات مسئول كبير، أو قريب له حيثية يُقدرها من بيدهم الأمر. والاثنان غير موجودين بالنسبة له، لذا استغل الوقت الضائع وحصل على "الماجستير"، إلى جانب عمله في تقطيع وتنعيم الرخام في المحاجر الجبلية القريبة من القاهرة، ومن آن لآخر يذهب إلى شركة من الشركات ويترك بياناته، لعل أحداً ينظر إليها، أو يشذ عن القاعدة المتبعة، أو يُخطيء ويرسل له.
احتمالات كثيرة كان يضعها إلى جانب شهاداته، ربما تنتشله من تقطيع الصخر، الذي ترك خشونة واضحة في كفيه.
قال تامر:
- إلى هذا الحد!
- أحيانـًا يأتي الأمر بالصدفة، بل بتحمس البعض لك، وتقديرهم لإمكاناتك.
أثنى على مساعدة الدكتور محسن، الذي أشرف على رسالته، وأبدى له رغبته في الحصول على فرصة يثبت بها ذاته فيما درسه وتعمق فيه، فلم يبخل عليه، ظل من جانبه يبحث له عن طريق زملاء دراسته العاملين في ذلك المجال، حتى وجد له مكانـًا في حاجة إلى من يشغله، ظل خاويـًا فترة طويلة رغم كثرة من يطلبون العمل، فيتركون صور مؤهلاتهم مشفوعة بالسير الذاتية، التي لم تبدأ حياتها العملية بعد.
أقبل على العمل بحب ورغبة قوية في أن يعوض الأعوام الضائعة، التي سبقه فيها أقران دراسته.
رد عبد المطلب السؤال على صديقه:
- وأنت.. من تحمس لك؟
فاجأ السؤال تامر، قام متكاسلاً يضغط ذراعيه للخلف، متثائبـًا يبحث عن مخرج للحرج الذي ظهر على ملامحه، قال:
- ألن نرى الأرنب مرة ثانية؟
- تهرب من سؤإلي، لابد أن وراءك مسئولاً كبيراً، لا تريد أن تُصرح به.
عفر الدخان حوله، نبهه إلى صوت الريح، الذي بدأ يُضخ في طبقات الهواء، لم يستطع أن يطلعه على حقيقة الأمر، خوفـًا من جرح مشاعره، وحتى لا يشاهد نظرة مفاجأة في وجه صديقه تؤلمه، لأن الوضع معه كان مُختلفـًا، لأن الأب يعمل في نفس المجال في شركة كبرى، وجد مكانه محجوزاً قبل أن يُنهي دراسته الجامعية.
*
( 6 )
بمناورات ثعلبية استرد "روميل" مدينة "طبرق"، دهن حوائطها بالأحمر، وخطا خطوة واسعة واضعـًا قدمه في "السلوم"، رفع أعلامه على ساحل البحر، وتسلل منها إلى "فوكه" التي لم تصمد أمام زحفه، رشق الموت المفاجئ من فوهات بنادقه ومدافعه في قلب "الضبعة"، جازّاً في طريقة رقاب الجنود التائهين عن خط الهرب في متاهة الصحراء، رافعـًا رؤوسهم على أعواد الحطب كعلامات تبرز من السحب الدخانية، واضعـًا جثثهم تحت عجلات عرباته ليتخطى صهد الرمل واشتعاله.
قَلّعَ حول أطراف "مونتجمري" الأكثر عدداً والأميز عدة، الذي لم يصمد وتقهقر إلى "العلمين" زارعـًا خلف خوفه وهروبه لغمـًا تحت كل حبة رمل بشكل لا تحتمله خرائط أو سجلات.
فمع الهرب يُلقي الهارب كل حمولته خلف ظهره دون أن ينظر أو يفكر في أي مكان ستقع.
*
أكثر من ثلاثين كيلومتراً قطعها صميدة مشيـًا في الرمل الساخن، لينضم إلى العمال الذين يحملون أكياس الكيماويات على أكتافهم، يصعدون بها إلى مهندس الطفلة، الواقف على الخزانات الكبيرة المجاورة للبريمة، ينـزعون خيوطها ويفرغونها في قمع ضخم، تُمرر منه المواد مُغربلة، وتخلط بمروحة طولها بارتفاع الخزان، ويُنقل الخليط إلى خزان آخر بقوة دفع، تصعد منه الطفلة في خرطوم ضخم إلى رأس البريمة، لتصب في فتحة المواسير.
وهو يُفرغ أحد الأكياس رأى الجيولوجي تامر بصحبة الخواجة "جون" يصعدان إلى العربة، يتحركان في اتجاه المعسكر الذي يبعد عن البريمة حوإلي ثلاثة كيلومترات، الحد الأدنى لتعسكر العاملين بعيداً عن موقع الحفر، تحسبـًا لخروج غازات من فتحة الحفر، أو اشتعال حرائق مفاجئة.
*
اشتعل الحطب أمام باب الخيمة، مُسربـًا ذيل الدخان في الهواء الجاف، خمدت النار على الحديث الدائر بين الوافد الجديد وأصدقائه القدامى، الذين مارسوا عليه أدوار العارفين بما تخبئه الأرض في باطنها، شعر أن الصحراء من حوله تغرق في طوفان من الزيت، أن رؤوسهم امتلأت وكبرت لدرجة أدهشته، تلفت واضعـًا يده على الرمل، فاتحـًا مركز الذاكرة للتلقي..
كرر جويده عليه أسماء المهندسين، والأجانب عدة مرات حتى حفظها.
*
معظم المتواجدين لا يعرفون أن الصخر والرمل السطحي تشتد حرارته بدرجة كبيرة، فيكسر الضوء الذي فوقه مباشرة، يجعله يبدو كبرك مائية شفافة، نتيجة للهواء الحار جداً الذي ينشط فيه ويزيد من سرعته، فيختلط عليهم الأمر، ويظنون أن الماء انساب من مصدر ما غير معلوم.
قال "جون":
- ما هذا الذي أراه.
أجابه تامر:
- الحرارة اليوم مرتفعة جداً، صهرت الرمل وحولته إلى ماء.
- غريب أمر هذا السراب، لو نستطيع أن ن